بعد محاولة السيطرة على المجتمع
المدني
يشعر كثير من الروس أن الرئيس فلاديمير
بوتين الذي عاد الى الرئاسة لولاية رئاسية ثالثة في أيار (مايو) الماضي،
يحاول تجميد الزمن، أو إعادة عقارب الساعة الى الوراء، ويستدلّ هؤلاء على
ذلك بحكم السجن لمدة عامين على أعضاء فريق «بوسي رايوت» الغنائي لاحتجاجهن
على بوتين في كاتدرائية. فهم يرون أن الحكم يأتي في إطار حملة تعيد الى
الحياة المحاكمات الصورية وأساليب الترهيب التي كانت سائدة في الحقبة
السوفياتية. فهل تسير روسيا نحو التسلّط والديكاتورية مجدّداً؟قال أحد منظّمي الاحتجاجات الحاشدة ضد بوتين في الشتاء الماضي ألكسي نافالني للصحافيين: «إنهن (الفتيات الثلاث) في السجن، لأن ذلك انتقام بوتين الشخصي... هذا الحكم كتبه فلاديمير بوتين». وصدر الحكم في الأسبوع الذي أكمل فيه الرئيس الروسي فترة المئة اليوم في السلطة، إثر عودته الى الكرملين في ولاية رئاسية ثالثة، والتي شدّد فيها الرقابة على منظّمات المجتمع المدني ردّاً على حركة احتجاج قامت ضده.
وتقول الفتيات إن احتجاجهن كان ضد علاقات بوتين الوثيقة مع الكنيسة، عندما اقتحمن كاتدرائية المسيح المخلّص ذات القبّة الذهبية في موسكو، وهن يرتدين أقنعة تزلّج برّاقة وتنانير قصيرة. ويصوّر معارضو بوتين المحاكمة على أنها جزء من حملة أوسع نطاقاً يشنّها ضابط الاستخبارات السوفياتية السابق لسحق الحركة الاحتجاجية.
وتتمتّع أعضاء فرقة «بوسي رايوت» بتأييد في الخارج حيث تبنّت قائمة طويلة من المشاهير، بينهم مادونا وبول مكارتني وستينغ، قضيتهن، بينما تشير استطلاعات إلى أن قلّة فقط من الروس يتعاطفون معهن.
ولم يكن الحكم على أعضاء فرقة «بوسي رايوت»: نادجدا تولوكونيكوفا ومارينا اليوخينا ويكاترينا ساموتسيفيتش، وحده الدليل على محاولة قمع بوتين حرّيّة التعبير، فقد وقّع الرئيس الروسي في آب (أغسطس) الماضي على قانون يصف المنظّمات غير الحكومية التي تتلقّى أموالاً أجنبية بأنها «عميلة للخارج». وطبقاً للقانون، فإن المنظّمات غير الحكومية التي تتلقّى تمويلاً أجنبياً مطالبة بتسجيل صفتها كوكيلة أجانب.
واعتبرت الأمم المتحدة أن القانون يشكّل إهانة مباشرة إلى أولئك الذين يرغبون فى ممارسة حقّهم بحرّيّة في تكوين الجمعيات، مشيرة إلى أن خطط الحكومة الروسية تهدف إلى تقييد لا مبرّر له لجمعيات المجتمع المدني في الحصول على تمويل من الخارج. ومن بين المؤسّسات التي تدخل بعد توقيع القانون على لائحة «العملاء الأجانب»، منظّمات لعبت أدواراً بارزة في محطّات مختلفة، وبينها منظّمة «غولوس» التي كشفت تفاصيل كثيرة عن انتهاكات في العمليات الانتخابية التي أجريت نهاية العام الماضي، مما أسفر عن تحريك نشاط معارض في الشارع يعتبر سابقة، وكذلك مؤسّسة «ميموريال» الحقوقية التي نشطت منذ أكثر من عقدين في الدفاع عن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في منطقة القوقاز. ومن اللافت أن بوتين عمل في الأشهر الثلاثة الأخيرة على إحكام سيطرته على المجتمع المدني الروسي بعد حركة احتجاجات غير مسبوقة، وذلك من خلال تبنّي سلسلة قوانين اعتبرتها المعارضة وسيلة قمع.
وبحسب منظّمات حقوق الإنسان، فإنه في الفترة التي سبقت الانتخابات البرلمانية العام الماضي والرئاسية في آذار (مارس) الماضي، كان قمع حرّيّتي التجمّع والتعبير في روسيا واضحاً للعيان بشكل خاص. إذ أقدمت السلطات على تفريق بعض تظاهرات المعارضة بعنف، بينما مضت المناسبات المؤيّدة للحكومة من دون تدخّل. وتعرّض ناشطو حقوق الإنسان والصحافيون الذين راقبوا التظاهرات والاجتماعات العامة للمضايقة من جانب الهيئات المكلّفة إنفاذ القانون.
وفي بلد يخضع فيه التلفزيون والعديد من وسائل الاعلام الأخرى لسيطرة الدولة، يتقلّص الحيّز المتاح أمام النقل المستقلّ للأخبار شيئاً فشيئاً. ويُمنع الصحافيون الذين يحاولون نقل الأخبار بصورة مستقلّة من القيام بعملهم المهني، ويمكن أن يتعرّضوا للتخويف وربما للمقاضاة. كذلك يساور منظّمة العفو الدولية قلق شديد من أن التحقيق في مقتل الصحافية المدافعة عن حقوق الإنسان آنا بوليتكوفسكايا لم يحقّق كما يبدو أي تقدّم في معرفة هويّة الجهة التي أصدرت أمراً بقتلها.
وبحسب منظّمة العفو الدولية، يشكّل قانون العام 2006 الخاص بالمنظّمات غير الحكومية بما يتضمّنه من شروط إبلاغ قاسية، أحد الصكوك القانونية التي يجري استخدامها لاستهداف بعض المنظّمات، التي تعتبر أنها تهدّد سلطة الدولة. واليوم تجد منظّمات غير حكومية كثيرة نفسها أسيرة الاجراءات البيروقراطية التي تضعها السلطات والتي تضيَّع جزءاً ثميناً من الوقت المخصّص للعمل الحقيقي، من دون أن تعزّز الوفاء بالأهداف المعلنة لقانون المنظّمات غير الحكومية والمتمثّلة بإخضاعها لدرجة أكبر من المساءلة أمام المجتمع. وتشمل الصكوك القانونية الأخرى قانون العام 2002 لمكافحة الأنشطة المتطرّفة وقانون الضرائب والقانون الجنائي المعمول به في روسيا الاتحادية.
وبحسب آخر استطلاعات الرأي التي أجراها مركز «ليفادا» المستقلّ ونشرت صحيفة «كومرسانت» نتائجه، فإن شعبية بوتين تدنّت الى 63 في المئة، بعدما كانت 67 في المئة خلال استطلاع أجري في تموز (يوليو) الماضي. واعتبر المحلّل السياسي ميخائيل فينوغرادوف، أن هذا التراجع في شعبية بوتين يدلّ على أن «الشعب تعب» منه بعد عودته الى الكرملين في أيار (مايو) الماضي بعد ولايتين رئاسيتين بين عامي 2000 الى 2008 وأربع سنوات على رأس الحكومة.
ويبدو سلوك بوتين وكأنه ضربة استباقية لاحتمالات اندلاع احتجاجات واسعة ضده في روسيا، على غرار موجة الاحتجاجات التي اندلعت في العالم العربي ضد الأنظمة التسلّطية والديكتاتورية، وانتهت بإطاحة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك واليمني علي عبد الله صالح ومقتل معمّر القذافي في ليبيا. فهل يخشى الرئيس الروسي فعلاً أن ينتقل «الربيع العربي» الى موسكو؟
ومما لا شك فيه أن عدداً من المسؤولين الأميركيين في الجناح المتشدّد في الحزب الجمهوري، مثل السناتور جون ماكين، يدعون من حين الى آخر الى نقل «الربيع العربي» الى روسيا، ردّاً على سياسة التشدّد التي ينتهجها بوتين داخلياً وخارجياً، مما أدى الى تدهور غير مسبوق في العلاقات الأميركية ـ الروسية لأول مرّة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وحتى المرشّح الجمهوري للرئاسة الأميركية ميت رومني دعا الى اعتبار روسيا «عدوّاً» عند وضع السياسات الأميركية. وهذه لغة كان الزعماء الأميركيون يتجنّبون استخدامها عقب انتهاء الحرب الباردة وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين واشنطن وموسكو.
وزاد الاستياء الأميركي أخيراً من موسكو بسبب تمسّكها بالتحالف مع الرئيس السوري بشار الأسد، ومنعها مجلس الأمن ثلاث مرّات من إصدار قرارات تندّد بالنظام السوري، وتلوّح بفرض عقوبات عليه إذا لم يوقف قمع الحركة الاحتجاجية المطالبة بإسقاطه وإقامة نظام ديمقراطي تعدّدي.
ومع التدهور الملحوظ في العلاقات مع الغرب على خلفيّة الأزمة السورية، وأزمة الدرع الصاروخية التي يرفض الكرملين نشر أجزاء منها في أوروبا، باعتبارها تهديداً للأمن القومي الروسي، يخشى بوتين أن يلجأ الغرب الى ابتزازه في الداخل من طريق دعم منظّمات غير حكومية تتولّى مناهضة سياسته، وتدعو الى إنهاء حكمه. ولذلك تشتد حملة الرئيس الروسي في الداخل ويرفض فتح أي مجال أمام قيام تحرّكات شعبية معارضة لسياسته، وذلك من خلال سنّ قوانين تساعده على الالتفاف قانونياً على أي تحرّك من هذا النوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق