إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.
أما
بعد:
فكلامي في هذه الدقائق عن طاعة الولد
لأبويه والمراد بالولد الذكر والأنثى.
فمتى
تجب طاعة الأبوين أو أحدهما؟ ومتى لا تجب طاعتهما؟
وقبل أن أبدأ أذكركم أن المقام مقام تقرير
علمي، وبيان الحكم الذي أعتقده، وليس مقام حث على الفضائل.
إذا حصل خلاف بين الولد وأحد أبويه فله
رفع الأمر للقضاء وليس ذلك من العقوق فعن مَعْن بْنَ يَزِيدَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ
بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا
فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ فَخَاصَمْتُهُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَكَ
مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ " رواه البخاري
(1420).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3
/292): "فيه جواز التحاكم بين الأب والابن، وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقا.
وقد اشتكى بعض الصحابة من الرجال والنساء آباءهم للنبي صلى الله عليه وسلم،
ولو كان رفع الأب للقاضي معصية؛ لأنكر النبي صلى الله علي وسلم ذلك".
تجب
طاعة الأب إذا طلب مالا من ولده، ولو مع عدم حاجته؛ فعن جابر بن
عبد الله، أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن أبي يريد أن
يجتاح مالي، فقال: «أنت ومالك لأبيك» رواه ابن ماجه (2291) بإسناد صحيح
والحديث ورد في الأب والأم كذلك، فحقها آكد من حق الأب، لكن هذا مشروط
بأمرين:
الأول
أن لا يتضرر الولد بأخذ والده من ماله، فحاجة الولد مقدمة على حاجة غيره؛
ففي حديث جابر -رضي الله عنه-: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا،
فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ
فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا
وَهَكَذَا" رواه مسلم (997).
الثاني:
أن لا يعطيه الأب لولد آخر فإذا كان يحرم على الأب أن يفضل بغير سبب أحد
أولاده بعطية من ماله الخاص فمنعه أن يفضله من مال أخيه من باب أولى لكن لو
كان الأب لا يجد النفقة وأعطى ولده من مال أخيه من باب النفقة جاز لأنَّ
هذا واجب على الأب وليس من باب التفضيل في العطية.
لا يجب على الابن طاعة أبويه أو أحدهما في
طلاق زوجته و هذا مذهب جمهور أهل العلم [1] وكذلك البنت لا يجب عليها مفارقة زوجها بطلب أبويها أو
أحدهما.
فعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "
لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف رواه البخاري (1840) و مسلم
(7252).
فليس من المعروف أن يطلق الابن زوجته بدون
سبب يوجب الفرقة وكذلك البنت فإذا أمر الأبوان بما لا يوافق الشرع فلا
طاعة لهما. وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال "
لا ضرر ولا ضرار " والطلاق من غير بأس ضرر من غير أن ينتفع الأبوان بذلك
إلا التشفي فلا يكلف الولد به فإلزامهما للولد بالطلاق حمق لا يلتفت إليه.
وطلاق الزوجة ليس من البر الواجب على
الابن قال الحسن البصري ليس الطلاق من برها في شيء رواه المروزي في البر
والصلة ص: 32 بإسناد صحيح.
ويشكل على ما تقدم حديث عبد الله بن عمر
قال كانت تحتي امرأة كان عمر يكرهها فقال طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال أطع أباك" رواه الإمام أحمد (4697) وغيره بإسناد
حسن وقد أجاب الإمام أحمد عن هذا الإشكال فسأله رجل ـ الآداب الشرعية
(1/475) ـ فقال إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي فقال لا تطلقها قال أليس عمر
أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته قال حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه.
وليتق الله الوالدان ولا يكونان سببا في
فراق الزوجين حتى لا يتشبها بالسحرة الذين يتعلمون من الشياطين ما يفرقون
به بين المرء وزوجه.
وكما
لا تجب طاعة الأبوين في طلاق الزوجة فكذلك لا تجب طاعتهما في الزواج من
امرأة أو زوج لا يريده الولد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع
الفتاوى (32/30) ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد وأنه إذا
امتنع لا يكون عاقا وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته
على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك وأولى؛ فإن أكل المكروه مرارة ساعة
وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك.
فسق الأبوين أو أحدهما أو كفره لا يسقط
حقهما من إحسان وبر ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى
أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ
إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ ﴾ (15) سورة لقمان فحتى حينما يكونان كافرين ويطلبان من
ولدهما موافقتهم على الكفر يبقى حقهما ولا يسقط بذلك.
ويؤخذ من الآية أنه لا تجب طاعة الأبوين
إذا أمرا بمعصية ففي حديث علي «لا طاعة في معصية».
إذا طلب الأبوان أو أحدهما ما يستخدم في
المحرم وغيره فإن كان الولد يعلم أنه سيستخدمه في المحرم فتحرم الطاعة وإن
كان يعلم أنه يستخدمه في غير المعصية فيطيعه كمن طلب من ولده أن يشتري له
موسى حلاقة. ومع عدم علم الولد هل الوالد سيستخدمه لأمر محرم أو غيره
يطيعه.
قال الإمام أحمد ـ الآداب الشرعية (2/ 42)
ـ في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج قال: إن كان خروجها في باب
من أبواب البر كعيادة مريض أو جار أو قرابة أو لأمر واجب لا بأس، وإن كان
غير ذلك فلا يعينها على الخروج.
يحرم
على الوالدين أو أحدهما أمر الولد بترك سنة لا يتضرران بفعله لها كأمرهما
له بترك السنة الراتبة، وعدم حلق الشعر في الحج والعمرة، ولا تجب
طاعتهما "إنما الطاعة في المعروف"، وهذا من المنكر وليس من المعروف.
قال الشيح محمد العثيمين في الفتاوى
(24/149) لا تطعه في ترك الطاعة إلا إذا كان هناك ضرر عليه هو، وهنا [في
حلق الشعر في العمرة] لا ضرر عليه، فالطاعات إما واجبة أو مستحبة...
والمستحبة انظر الذي ترى أنه أصلح ولكن لا يلزمك أن تطيع والديك في ترك
المستحب إذا لم يكن عليه ضرر.
الخطبة الثانية
تجب طاعة الوالدين في ترك السفر الذي فيه
خشية عليه من وفاة أو تلف عضو ونحو ذلك فتجب طاعة الوالدين في ترك الجهاد
إذا لم يكن واجبا فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قال جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ
قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " رواه البخاري (3004) ومسلم
(2529).
قال البلقيني ـ الزواجر (2/72ـ74): [يحرم
أن] يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل فيه الخوف على الولد فوات نفسه أو عضو من
أعضائه... كالسفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس
الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك.
... وأما مخالفة أمره أو نهيه فيما لا
يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية، وإنما هو مجرد إرشاد للولد، فإذا فعل ما
يخالف ذلك لم يكن عقوقا وعدم مخالفة الوالد أولى.
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: ظاهر
هذا التعليل أن التطوع يعتبر فيه إذن الوالدين كما يقوله في الجهاد وهو
غريب والمعروف اختصاص الجهاد بهذا الحكم... وأما ما يفعله في الحضر كالصلاة
النافلة ونحو ذلك فلا يعتبر فيه إذنه ولا أظن أحدا يعتبره ولا وجه له
والعمل على خلافه والله أعلم.ويتوجه أن يراد بالسفر ما فيه خوف كالجهاد
انتهى. أما إذا كان السفر لا خوف فيه ولا يتضرر الوالدان بذلك فلا تجب
طاعتهما إذا أمر الأبوان ولدهما بترك مباح أو بفعله كترك سفر لا خوف فيه أو
ترك طعام معين أو لباس معين أو سيارة معينة وغير ذلك فلا يخلو الأمر من
أحوال:
الأول:
أن يكون فيه نفع لهما ولا يتضرر الولد فتجب طاعتهما وتحرم مخالفتهما.
الثاني:
أن يكون فيه نفع لهما و يتضرر الولد فلا تجب طاعتهما.
الثالث:
أن لا يكون فيه نفع لهما فلا تجب طاعتهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ الآداب
الشرعية (1/464) ـ الذي ينتفعان به ولا يستضر هو بطاعتهما فيه قسمان: قسم
يضرهما تركه فهذا لا يستراب في وجوب طاعتهما فيه، بل عندنا هذا يجب للجار.
وقسم ينتفعان به ولا يضره أيضا يجب
طاعتهما فيه على مقتضى كلامه،
فأما ما كان يضره طاعتهما فيه لم تجب طاعتهما فيه لكن إن شق عليه ولم يضره
وجب... لأن فرائض الله من الطهارة وأركان الصلاة والصوم تسقط بالضرر فبر
الوالدين لا يتعدى ذلك.
وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية
الكبرى (2/ 104) لم يكن للأب منعه من السعي فيما ينفعه دينا أو دنيا... ولا
نظر لكراهة الوالد له حيث لا حامل عليها إلا مجرد فراق الولد لأن ذلك حمق
منه وحيث نشأ أمر الوالد أو نهيه عن مجرد الحمق لم يلتفت... وأمره لولده
بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه يتعين على الولد امتثال أمره إن تأذى أذى
ليس بالهين إن لم يمتثل أمره.
وقال الشيخ محمد العثيمين في لقاء الباب
المفتوح (3/70) لو قالا له:... لا تأكل الشيء المعين، وهو مما يشتهيه، فلا
يلزمه طاعتهما في ذلك؛ لأنه لا مصلحة لهما في ذلك، وفيه ضررٌ عليه لفوات
محبوبه.
أخي الولد في الختام كلامي السابق هو في
تقرير مسائل علمية وبعضها محل خلاف واعلم أنك مهما قدمت لوالديك وخالفت
هواك وآثرت رضاهما وإن لم يكن واجبا عليك فإنك لن تبلغ كمال برهما فعن أبى
هريرة قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا
إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ "رواه مسلم
(1510).
ومهما تبلغ من البر فلن تبلغ بر إسماعيل
بأبيه الخليل صلى الله عليهما و سلم حيث بلغ به البر منتهاه فجاد بنفسه
براً بأبيه لتنفيذ وحي الله في المنام.
وأختم مقالي بقول ابن حجر الهيتمي في
الفتاوى الفقهية الكبرى (2/ 104) حينما فرغ من الكلام على المسألة فقال: مع
ذلك كله فليحترز الولد من مخالفة والده فلا يقدم عليها اغترارا بظواهر ما
ذكرنا بل عليه التحري التام في ذلك والرجوع لمن يثق بدينهم وكمال عقلهم فإن
رأوا للوالد عذرا صحيحا في الأمر أو النهي وجبت عليه طاعته وإن لم يروا له
عذرا صحيحا لم يلزمه طاعته لكنها تتأكد عليه حيث لم يترتب عليها نقص دين
الولد وعلمه أو تعلمه والحاصل أن مخالفة الوالد خطيرة جدا فلا يقدم عليها
إلا بعد إيضاح السبب المجوز لها عند ذوي الكمال.
[1] انظر : البر
والصلة للمروزي ص : 31 والآداب الشرعية (1/475) و غذاء الألباب (1/384) و
كشاف القناع (5/233) و مطالب أولي النهى (7/322) الفتاوى الكبرى الفقهية
لابن حجر الهيتمي (2/104) و فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (11/6) وفتاوى
اللجنة الدائمة (20/29ـ32) و مجموع فتاوى ابن باز (21/289) ولقاءت الباب
المفتوح (3/70).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق