لقد سَبق أنْ
أساءَ أعداءُ الإسلام إلى خيرِ الأنامِ - عليه الصّلاة والسّلام -، فكانت في إساءتِهم يقظةٌ للمسلمين، واستبانةٌ
لسبيلِ المجرمين؛ بل أثار الاعتداءُ فُضولاً في أمّةٍ كبيرةٍ مِن النّاس
للتعرُّفِ على مَن أرسلَه اللهُ رحمةً للعالمين، فدخلُوا في الإسلام مِن
البابِ الّتي فُتحت لمحاربتِه، وأحبّوا محمّدًا - بأبي هو وأمّي -
مِنَ الطّريقِ الّتي رُسِمَت لتشويهِه، فتَهلّلَتْ وُجوهُ المُنْتصرين،
واسْودَّتْ وُجوهُ المُعتَدين، لِينْقلِب السِّحرُ على السّاحر، وتتحوّل
المِحْنةُ إلى مِنْحَة.
وصدق الله
العظيم إذْ خاطَبَ رسولَه - عليه
الصّلاة والسّلام - بقولِه: ﴿ إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ ﴾ [1]، وقولِه -
سبحانه: ﴿ إِنَّ
شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ﴾ [2].
فقد كانتِ
المِنْحةُ بعد الحَربِ المُعلَنة ضدَّ كلِّ ما يرمزُ إلى الإسلام عقِب
أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتّحدة الأمريكية، وكانت
المِنحةُ بعد الصّور الكريكاتورية الّتي أساء فيها القذِر الدّانمركي إلى
المُرسَلِ رحمةً للعالمين - عليه
الصّلاة والسّلام -، وكانت المِنحة بعد تجرّأ حُثالةٍ مِن البشر على تنجيسِ
المُصحف الشّريف في أفغانستان وغونتنامو، وكانت المِنحة بعد تواعُد طائفة
على رأسِهم قِسّيسٌ خَسيسٌ على حرْقِ المُصحف في ولاية فلوريدا الأمريكية،
وكانت المِنحة بعد إنتاج الفيلم الهولندي المسيء للإسلام: "فتنة"، وغيرِها مِن المِنحِ بعد
الإساءاتِ المُتعاقِبة.
ولنْ
تُسْتَثْنَى المُحاولة المُسيئة لرسولنا - صلّى الله عليه وسلّم - بفيلم
"براءة المسلمين"[3]،
والرّسومات الكاريكاتورية السّاخرة
التي نشرتها مجلة "شارلي إيبدو"
الفرنسية بعدها، مِن لُحوق الخيْبةِ
والخُسران على القائمين عليها والمُنْتِجين، وتَحقُّقِ الفَتحِ والنّصرِ
لرسولِ الهدى والمُدافِعينَ عنه والمُنافحين، وإذا ثار أهلُ الإسلام
لنُصرةِ نبيِّهم، فتَظاهروا وأعلَنوا النَّكيرَ على أعداءِ الله ذبًّا عن
دينِهم، فإنّ الله - عزّ وجلّ - أغيرَ
على دينِه ونبيِّه مِن جميع عبادِه.
وإنّها
لَغيرةٌ مُعجِّلةٌ بجَلاء الحزْنِ والغمِّ ممّا يُحاك ضدّ الإسلام
والمسلمين، وحُلولِ الخِزيِ والذلِّ على الكفرة الشّانئين، إنّها سنّة الله
في اللّذين أجرموا قَبلَهم وَمَكرُوا، وَخطّطوا لأَفكَارِهِم وَدبّروا،
وَأَجَالُوا آرَاءَهُم وَتَآمَرُوا، وَابتَغَوُا الفِتنَةَ والبُغضَ
أظهَروا؛ فما كان مِن الواحِدِ القهّارِ الجبّارِ - عزّ وجلّ -
إلاّ أنْ أبطَلَ شرَّهم، وخيَّبَ سَعيَهُم، وَرَدَّ كَيدَهُم، فحَاقَ بهم
المَكر، وكان لدينِ الله ونبيّه النّصر.
يقولُ الله - تعالى -: ﴿ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللهُ، وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾[4].
ويقول - سبحانه -: ﴿ أَمْ
يُرِيدُونَ كَيْدًا، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ﴾[5].
ويقول: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ
فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون
﴾[6].
ويقول: ﴿ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ
وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ
وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾[7].
ويقول: ﴿ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾[8].
ويقول: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ
يَنقَلِبُونَ ﴾[9].
ويقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
مُّهِينًا ﴾[10].
قال شَيخُ
الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ - رحمه الله -: "وأنَّ اللهَ مُنتقِمٌ
لِرَسولِهِ مِمَّن طَعنَ عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدينهِ ولِكذِبِ
الكَاذِب؛ إذا لم يُمكِن النّاسَ أَنْ يُقيموا عليه الحَدّ.
ونظيرُ هذا
ما حَدَّثَنَاهُ أعدادٌ مِنَ المُسلِمين العُدولِ أَهلِ الفقهِ والخِبرةِ،
عَمّا جَرّبوهُ مَرّاتٍ متعدّدةٍ، في حَصْرِ الحُصونِ والمَدائِنِ التي
بالسَّواحلِ الشّامِيَّة، لمّا حَصَرَ المسلمون فيها بَني الأصفَرِ في
زمانِنا، قالوا: كُنَّا نحنُ نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينةَ الشَّهرَ أَو
أَكثَرَ مِنَ الشّهرِ وهو ممتَنِعٌ علينا حتّى نَكادُ نَيأسُ منه، حتّى إذا
تَعرَّضَ أَهلُهُ لِسبِّ رَسولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلّم - والوَقيعةِ في عِرضِه، تَعَجَّلْنا
فَتْحَهُ وتيسَّر، ولم يَكَدْ يَتَأَخَّرُ إلاّ يومًا أو يومينِ أو نحوَ
ذلك، ثمّ يُفتحُ المكانُ عَنْوَةً، ويكونُ فيهم مَلحَمةٌ عظيمة، قَالوا:
حتّى إنْ كنّا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيلِ الفَتحِ إذا سَمعنَاهُم يَقعونَ فيه،
مع امتلاءِ القلوب غَيظًا عليهم بما قالوا فيه"[11].
اهـ
ولمّا نَصَرَ
اللهُ رَسولَه على ما علِمناه مِن وَعدِه ورأيناه في سُنَنِه، كان مِن
العِزّةِ والشّرَفِ أنْ نَسْتَجلِبَ النّصرَ الجديد، فنَصْطَفَّ صفًّا
واحِدًا ضدّ هجماتِ أعداءِ الإسلام عبادًا لله وهو خالقُنا، وجُنْدًا
لنبيِّه وهو قائدُنا، فنردّ عن خيْرِ البريّة الكذبَ والبُهتان، ونُبيِّن
للعالَمِ الحقيقةَ بالعمل واللّسان، ونَدعو الخَلْقَ إلى الحقّ والإيمان؛
لنُحوِّلَ المِحْنةَ إلى مِنْحَة.
ولعلّ
مِن أبرز الوسائل لتحقيق ذلك:
1- إشعارُ المسلمين بخطورةِ
الوَضعِ وعِظمِ الجُرْم، وتذكيرُهم بعداوةِ الكُفَار للإسلام والمسلمين،
وتثبيتُ عقيدةِ الوَلاءِ والبراءِ في قلوبِهِم.
2- إظهارُ الاحتجاجات بشتّى
أنواعِها، على حسبِ تيسُّرِها على النّاس وتحقيقِها للمقصَد؛ فإنَّ برمجةَ
الوقفات وتنظيمَ المَسيرات ونحوها، مِنْ أنجعِ السُّبلِ في إيصالِ رسائلِ
الاسْتِنكار؛ مع ضرورة وضعِ كلِّ حركة منها في ميزان المصالحِ والمفاسد قبل
الإقدام عليها، واجتِنابِ الفوضى والمخالفات فيها.
3- التحرّكُ السّياسي على مستوى
الحكومات الإسلامية والعربية، تحرُّكًا يُعزّ أمّة الإسلام ويرفع شأنها،
فإنّ مَن عجز عن الوقوف في وجه مَن تعدّى على العقيدة الّتي يَنْتسبُ
إليها، فهو في غيره مِن المواقف أعجز؛ فلْتُلقَ الخطاباتُ الرّسميةُ تُشدّد
اللّهجة ضدّ المسيئين، ولْيُستدعَ سُفراءُ البلدانِ الّتي صدَرَ منها
الاعتداء، للضّغط على دولهم حتّى يَتمَّ توقيف المُعتدين عند حدِّهم، وإلاّ
انْتُقِلَ إلى ما هو أشدّ.
4- استعمالُ الورقة الاقتصادية،
مِن خلال تهديدِ الدّولِ الإسلامية لبلدِ مصدر الاعتداء بقطعِ إمدادِه
بشتّى مواد الطّاقة، لاسيّما وأنّ أراضيها تَزْخَرُ بها على مستوى ضخم؛
وكذا الدّعوة إلى مقاطعةِ بضائع مؤسّساتِ أرضِ الإساءة والعملِ على
توسيعها، بشرط أنْ تَكون مَدروسةً مُنظَّمةً لا إفراط فيها ولا تفريط،
يَقودُ حملتَها عُقلاء.
5- التّعاونُ والتّشاورُ
لمُطالبةِ الهيئات الحقوقيّة العالميّة - على رأسِها الأمم المّتحدة - بإنشاءِ ميثاقٍ أمميّ، يُقنَّنُ فيه
تجريمُ الاستهزاءِ بالأديان، ومِن ثَمَّ يُلاحقُ قانونيًّا كلُّ مَن
تُسوِّلُ له نفسُه الخبيثةُ الإساءةَ إلى الإسلام، والاستهتار بنبيِّ
الهُدى - صلّى الله عليه وسلّم -.
6- إقامَةُ الدّروسِ والنّدوات،
وتنظيمُ التجمّعات والمُلتقيات، في تعزيزِ محبّةِ رسولِ الإسلامِ - عليه الصّلاة والسّلام - في نفوسِ أهلِ الإيمان؛ مِن خِلالِ البيانِ
لفضائلِه وشمائلِه، والتّذكيرِ بسيرتِهِ وهديِه.
7- اسْتغلالُ الحادثة في ما هو
خيرٌ للإسلام، بدعوةِ غيرِ المسلمين إلى عقيدةِ التّوحيد وتعريفِهِم
بالدّين، وإظهارِ محاسِنِه لهم وسماحتِه، وإزالةِ الشّبهات الّتي تَحولُ
بينهم وبين اعتِناقِه.
8- دعمُ وإعانةُ كلِّ مُنظّمةٍ أو
هيئةٍ أو حملةٍ انْبرَت للدّفاعِ عنِ الإسلامِ ونصرةِ محمّد سيّد
المُرسّلين؛ كـ "مُنظّمة النّصرة
العالمية"[12]،
و "اللّجنة العالمية لنصرة خاتم
الأنبياء"[13]،
و"البرنامج العالمي
للتعريف بنبيّ الرحمة"[14]،
و"موقع نبيّ الرحمة"[15].
كان هذا
تبشيرٌ لكلّ مُؤمِنٍ مَحزونٍ مِنَ الإساءة، وبيانٌ لكلِّ غَيورٍ مَهمومٍ
بالموقِفِ مِن الدّناءةِ؛ فإنْ اكتفَيْنا بحُزْنٍ مجرّدٍ مِن المواقِف، فهو
اكتِفاءٌ يدلّ على خَلَلٍ في محبّتِنا لخاتَمِ الأنبياء، إذِ المُحِبُّ
ناصِرٌ لِمَن يُحِبّ، وإنّما في نُصْرةِ محمّدٍ الخيْرُ والإيمان، أمّا هو - عليه الصّلاة والسّلام - فقد أغْناهُ الله عنّا إذا لم نكنْ له مِن
النّاصِرين؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ
إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي
الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْإِنَّ اللهَ مَعَنَا،
فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍلَّمْ
تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى،
وَكَلِمَةُاللهِ هِيَ العُلْيَا، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾[16].
[1]
سورة الحِجر: الآية 95.
[2]
سورة الكوثر: الآية 3.
[3] وهو
فيلم مُقزِّزٌ أخلاقيا، مُقْرِفٌ ذوقًا؛ وضعيف جدّا فنّيًا، نُشرَ منه
مقطعٌ قصيرٌ على الإنترنت، قصدتُ متابعتَه لأرى صورة الكذب والافتراء فلم
أُكمله لما سبق.
بل شمل الكذب حتّى الممثّلين أو بعضهم في
الفيلم، فكانوا مِن ضحاياه! فقد صرّحت الممثّلة "سيندي لي غارسيا" لقناة
الأم بي سي، وهي مِن المشاركين في بطولة الفيلم قائلة: "أنا ممثلة أعمل في
لوس أنجلس أجريت تجربة أداء أمام سام باسيل وامرأة، وتم استدعائي للتمثيل
في فيلم اسمه محاربو الصحراء؛ التصوير استغرق حوالي أربعة أيام، وكان دوري
في الفيلم هو دور الأم، لم يذكر أبدا أن هذا الفيلم ديني او له علاقة بأي
دين إلا جملة واحدة كان يؤديها زوجي في الفيلم مع رجل يدعى السيد جورج،
وكانا يهتفان اشكروا الله أربع مرات".
وأضافت: "في المقطع الذي نشر لي في
اليوتوب وما رأيتموه، كان يدور حول السيد جورج وكنت غاضبة من زوجي لأنه
وافق على تزويج ابنتنا الصغيرة الى رجل عمره 53 عامًا، لكن عندما رأيت
المقطع غضبت كثيرًا لأنني رأيت أشياء لم أكن مشاركة فيها.. ولم أذكر ولا
مرة كلمة محمد، ولم أسمع هذا الاسم يذكر خلال التصوير.. ولم أفهم ما الذي
كان يحاول فعله، لأنه لاحقًا اكتشفت أنه تمت دبلجة صوتي وتغيير الحديث".
[4]
سورة الأنفال: الآية 30.
[5]
سورة الطور: الآية 42.
[6]
سورة الأنبياء: الآية 41.
[7]
سورة التوبة: الآية 48.
[8]
سورة يوسف: الآية 21.
[9]
سورة الشّعراء: الآية 227.
[10]
سورة الأحزاب الآية 57.
[11] الصّارم المسلول على شاتِم الرّسول: 2-233،234.
[12] منظّمة يقوم عليها فضيلة الشّيخين: الدّكتور يوسف
القرضاوي، والدّكتور سلمان بن فهد العودة - حفظهما الله -. موقعها على الإنترنت: www.nusrah.org.
[13] لجنة يُشرف عليها فضيلة الشّيخ الدّكتور الشّريف
حاتم بن عارف العوني - حفظه الله -.
موقعها على
الإنترنت: www.icsfp.com.
[14] موقع البرنامج على الإنترنت: www.mercyprophet.org.
[15] عنوان الموقع على الإنترنت: www.nabialrahma.com.
[16]
سورة التوبة: الآية 40.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق