التدرج ..وسيلة أم حيلة ..؟
المدافعون عن هذه الأحزاب الإخوانية
يستدلون غالبا بمسألة التدرج، وأن الشريعة لا يمكن أن تطبق دفعة واحدة ..
وهذا صحيح ..فالشريعة لا يمكن أن
تطبق دفعة واحدة ..
لكن القضية المطروحة للنقاش اليوم
ليست هي : هل يجب تطبيق الشريعة دفعة واحدة أم يشرع تطبيقها على دفعات ؟
بل قضية الصراع هي مسألة الخضوع
المبدئي لشرع الله والكفر المطلق بما عداه، فهذه مسألة لا تقبل التأخير.. ولا تقبل
التجزئة ..ولا تقبل التدرج، لأنها مسألة إسلام أو كفر .
وحين يتم إعلان الخضوع التام لشرع
الله والكفر بكل النظم والقوانين المخالفة له، فيمكن للحكومة أن تشرع في تطبيق
الشريعة الإسلامية حسب جدول زمني يتناسب مع قدراتها وظروفها .
أما أن تخضع الحكومة من حيث المبدأ
لنظام كفري يجعل الحكم لغير الله، ثم تدعي أنها تريد –انطلاقا من هذا النظام
الكفري-السعي إلى تطبيق شرع الله بشكل تدريجي فهذا الأمر-لو فرضنا صدق زاعمه- فهو
مرفوض شرعا لأن الله تعالى لم يجعل الشرك وسيلة إلى التوحيد .
وكما لا يجوز لأحد أن يؤخر إسلامه
لأي مصلحة أو عذر، فلا يجوز له أن يؤخر الخضوع المبدئي لشرع الله لأن انتفاء هذا
الخضوع يعني انتفاء الإسلام .
والإقرار بإفراد الله بالحكم والخضوع
له هو الأساس الذي يبنى عليه تطبيق الشريعة .
فالتدرج في تطبيق الشريعة مشروع إذا كان
في ظل حاكمية الشريعة والخضوع المطلق لها والكفر بما عداها ..
وممنوع إذا كان يعني إقرار التحاكم
لغير شرع الله من حيث المبدأ .
فالحكم بغير ما أنزل الله يجب رفضه
فورا ولا يجوز إقراره لحظة واحدة .
إن الصراع اليوم بين المسلمين
والعلمانيين هو صراع حول المبادئ الدينية والأسس العقدية :
هل
يكون الحكم للشريعة الإسلامية؟
أم
يكون الحكم لمبادئهم الديمقراطية الكفرية ؟
إلى حد الساعة فإن الحكم ما يزال
لمبادئهم الكفرية، والأحزاب التي تنسب نفسها للإسلام تقرهم على هذه المبادئ
وتتحاكم معهم إليها .
ولا يجدي نفعا أن تقوم هذه الأحزاب
التي تسمي نفسها إسلامية بتطبيق بعض القرارات الموافقة لشرع الله في ظل إقرارها
بمبدأ التحاكم لغير شرع الله .
إذا ما أتيت
الأمر من غير بابه *** ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدي.
يكون الصفر عددا عشريا ذا قيمة حينما
يكون على اليمين، ويكون صفرا مطلقا لا قيمة له حينما يكون على الشمال ..
وهكذا..فإن تطبيق الأحكام الشرعية
يكون التزاما بشرع الله حينما يكون ذلك التطبيق انطلاقا من مبدأ التحاكم لله وحده،
ويكون طاعة للهوى حينما يكون انطلاقا من التحاكم لغير الله ..
ولعله مما يقرب هذا الأمر إلى
الأذهان مسألة الخلاف بين أهل العلم في مخاطبة الكفار بالفروع، ومع هذا الخلاف فهم
متفقون على أن الأعمال لا تقبل إلا بالإسلام، وأن الكافر لا تصح منه الفروع حتى
وإن كان مخاطبا بها .
فالأعمال التي يتقرب بها إلى الله
تعالى لا بد أن تكون مسبوقة ومشفوعة بالخضوع لله تعالى والإخلاص له .
وقد ضربت من قبل مثالا لهذا الأمر
بتطبيق الدول الكافرة لأحكام الشريعة في ظل دساتيرها الكفرية، فهذا التطبيق لأحكام
الشريعة لا يعتبر تحاكما إلى شرع الله مادام يحدث انطلاقا من دستور كفري .
وكل البلاد التي تحتكم إلى
الديمقراطية-بما في ذلك بلاد العالم الإسلامي- تحكمها دساتير كفرية لأنها تجعل
الحكم من حق الشعب وليس من حق الله تعالى .
إن شرط الانطلاق من إفراد الله
بالحكم والتعبد له به شرط أساسي في مسألة تطبيق شرع الله، وبانعدام هذا الشرط
ينعدم تطبيق الشرع .
ولا جدوى من التدرج في هذه الحال ..!
فليتدرجوا إن شاءوا أو ليسرعوا
..فالمحصلة واحدة ما داموا ينطلقون من مبدأ التحاكم لغير الله ..!
وكل تلك الإنجازات التي يظن بأنها
تقدم نحو الإسلام سوف تكون مجرد أصفار على الشمال ما لم يتم الانطلاق من مبدأ
الخضوع لشرع الله وحده.
قد يكون فيها إرضاء لبعض الجماهير
التي لبّسوا عليها بإمكانية تطبيق الشريعة في ظل النظام الديمقراطي، لكنه في
الميزان الشرعي لا يعني شيئا .
والكفر مذموم
وإن هتفت له ** كل الأكف تربصا وتصبرا
إن هذه الأحزاب التي تصف نفسها
بالإسلام تريد أن تمسك العصا من منتصفها، فترضي الغرب بالتمسك بمبادئ الديمقراطية
التي تجعل الحكم لغير الله، وترضي الجماهير المسلمة بالشعارات الإسلامية وتطبيق
بعض الأحكام الفرعية في ظل الأنظمة الشركية .
ودعوى التدرج هذه ما هي إلا حيلة
للالتفاف على شرع الله، وقد تموت أجيال كاملة في هذا التدرج دون أن نرى شرع الله
مطبقا على أرض الواقع ..
ولا
تُرْج فعل الصّالحات إلى غد ** لعلّ غداً يأتي وأنت فقيدُ
ونحن مكلفون بإقامة شرع الله في
جيلنا و زماننا، وكل لحظة نعيشها في غياب شرع الله محسوبة علينا ..
التحاكم إلى شرع الله وحده واجب شرعي
فوري لا تجوز فيه المماطلة أو التسويف .
وتاريخ الإخوان لا يدل على أنهم
يتدرجون في تطبيق الإسلام بل إنهم يتدرجون في الانسلاخ من الإسلام...وكل يوم
يزدادون بعدا من الإسلام !
وكل يوم يتخلون عن شريعة من شرائع
الإسلام ..!
وحتى هذه اللحظة لم يقتربوا من
الإسلام أو الشريعة بشكل عملي ..
فهم يتقدمون نحو الأسوأ، سواء على
المستوى الفكري أو على المستوى السلوكي ..!
الإخوان في الخمسينات من القرن
الماضي أفضل حالا منهم في الستينات، وهم في الستينات أفضل حالا منهم في السبعينات،
وكل يوم يرذلون !
رُبَّ
يومٍ بكيتُ منه فلما ... صرتُ في غيره بكيتُ عليهِ
***
والتدرج حتى وإن كان في ظل الإقرار
بالتحاكم إلى الشريعة فله شروط وضوابط ..
وليس من التدرج المشروع مثلا قول
القرضاوي : "الحريات عندنا مقدمة على تطبيق الشريعة" ..
وليس من التدرج المشروع إلغاء
المعلوم من الدين بالضرورة كالحدود الشرعية بحجة ضغوط الدول الكافرة أو خشية فقد
السلطة ..
بل الواجب هو المبادرة إلى تطبيق الحدود
وتحمل ما يترتب على ذلك من كيد الأعداء..
وليتذكر المسلمون في مثل هذا الموقف
قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [آل عمران:
142].
قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ
أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ
اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214]
وقوله تعالى :{ أَمْ حَسِبْتُمْ
أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [التوبة: 16].
فلا ينبغي أن تكون ضغوط الكفار مما
يحملنا على التخلي عن شريعة ربنا.
والأصل أن تطبيق كل حكم من أحكام
الشريعة واجب على الفور، ولا يجوز تأخيره إلا بسبب العجز وانتفاء القدرة ..
وهذا العجز إما أن يكون بسبب طبيعة
ظروف التطبيق لكونه لا يمكن تطبيقه دفعة واحدة ..
وإما أن يكون بسبب غياب التمكين
كضغوط الدول الغربية أو العلمانيين أو العسكر الرافضين لتحكيم الشريعة .
أما اللجوء إلى التدرج لكون بعض
الأحكام لا يمكن تطبيقها دفعة واحدة فلا خلاف في مشروعيته ..
وأما اللجوء إلى التدرج بسبب غياب
التمكين فهو غير مشروع وغير مطلوب.. بل المطلوب في حالة غياب التمكين هو السعي إلى
تحقيق التمكين الذي يتمكن المسلمون خلاله من تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل كامل.
لأن تطبيق الشريعة لا يتحقق إلا في
ظل غلبة الإسلام وتحقق التمكين للمسلمين، وحينها -أي حين تكون الغلبة للإسلام
والمسلمين- يتعين علي المسلمين الشروع بشكل مباشر في تطبيق الشريعة الإسلامية كما
قال تعالى : {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
فالواجب على المسلمين في حالة عدم
التمكين هو مدافعة الظالمين والتصدي لأعداء الدين وإرغامهم على التنحي والخضوع
لشريعة رب العالمين .
ولا يجوز أن نجعل من مداهنة أعداء
الشريعة والتوصل معهم إلى حل وسط بديلا عن استكمال التمكين .
ولا يجوز أن نجعل من التنازل عن بعض
أحكام الشريعة وسيلة إلى تطبيق بعضها، فهذا غير مشروع ..وغير مطلوب ..!
قال ابن جرير في تفسيره :
(حدثني محمد بن سعد، قال : حدثني أبي
، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : {وإن كادوا
ليفتنونك عن الذي ، أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} وذلك أن
ثقيفا كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أجلنا سنة حتى يهدى
لآلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يهدى لآلهتنا أخذناه ، ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة ، فهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ، وأن يؤجلهم ، فقال الله : {ولولا أن
ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا}.) تفسير ابن جرير (15/ 14).
ولنتذكر في هذا الباب قول أبي بكر
الصديق رضي الله عنه : "والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه" .
إن استلام بعض الإسلاميين للحكم في
ظل هيمنة أعداء الدين الذين يشترطون إلغاء الشريعة إنما يعني فقط مشاركتهم في مهمة
الحكم بغير ما أنزل الله..!
وقضية الحكم بما أنزل الله لا تقبل
أنصاف الحلول ..فإما أن يكون الحكم لله وحده، وإما أن يكون لغيره ..
وإذا كان التمكين لا يتحقق إلا
بمدافعة الظالمين، فلا بد من التذكير بأن هذه المدافعة لا يمكن أن تتحقق من خلال
منهج النظام الديمقراطي، لأن هذا المنهج يقوم على مسايرة أهل الباطل والتلاقي معهم
في باطلهم .
وحتى لو حدث نوع من التمكين عن طريق
هذا النظام فسوف يكون على أرض متحركة لأن أصحابه مستعدون للتناوب على السلطة حسبما
تقتضيه قواعد اللعبة الديمقراطية، ولن يدخلوا أي صراع من أجل الحفاظ على التمكين
لأنهم لم يدخلوا أي صراع من أجل وقوع التمكين.
ومن
أخذ البلاد بغير حرب ... يهونُ عليه تسليمُ البلادِ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق